تحميل كتاب اقتصادنا لباقر الصدر

0

الماركسية في ضوء المادية الفلسفية:

تؤمن الماركسية، بأن التفسير المادي للتأريخ، من أهم مزايا المادية الحديثة. إذ لا يمكن بدونه، اعطاء التأريخ تفسيرا صحيحا، يتجاوب مع المادي صادقا - في رأي الماركسية - على الوجود، بصورة عامة، فيجب أن يصدق بالنسبة إلى التاريخ، لأن التأريخ ليس إلا جانبا من جوانب الوجود العام. وعلى هذا الأساس، تعيب الماركسية على مادية القرن الثامن العشر، موفقها من تفسير التاريخ، لأن مادية القرن الثامن عشر الميكانيكية، لم توفق إلى هذا الكشف المادي الجبار، في الحقل التاريخي، بل كانت مثالية في مفاهيمها عن التاريخ، بالرغم من اعتناقها المادية في المجال الكوني العام.

لماذا كانت مادية القرن العشرين مثالية:

ولماذا كانت في مفهومها التاريخي مثالية؟ كانت كذلك - في رأي الماركسية - لأنها آمنت بالأفكار والمحتويات الروحية للإنسان. ومنحتها دورا رئيسيا في التاريخ، ولم تستطع خلال العلاقات الاجتماعية، التي كانت تعيشها، أن تتخطى هذه العوامل المثالية. إلى السبب الأعمق، إلى القوى المادية، الكامنة في وسائل الإنتاج. فلم تصل لأجل هذا، إلى العلة المادية للتاريخ، ولم يحالفها التوفيق في وضع تصميم علمي، لمادية تاريخية، تتجاوب مع المادية الكونية. وإنما ظلت تتعلق بالتفسيرات المثالية السطحية، التي تدرس السطح التاريخي.

ديالكتيكية الطريقة:

لم تقتصر الماركسية على الطريقة الديالكتيكية، في البحث التاريخي، بل اتخذتها شعارا لها في بحوثها التحليلية، لكل مناحي الكون والحياة، غير أنها لم تنج بصورة نهائية، من التذبذب بين تناقضات الديالكتيكية، وقانون العلية، فهي بوصفها ديالكتيكية، تؤكد: أن النمو والتطور ينشأ عن التناقضات الداخلية فالتناقض الداخلي، هو الكفيل بأن يفسر كل ظاهرة من ظواهر الكون، دون الحاجة إلى قوة أو علة خارجية، ومن ناحية أخرى تعترف: بعلاقة العلة والمعلول، وتفسير هذه الظاهرات أو تلك بأسباب خارجية، وليس بالتناقضات المخزونة في أعماقها.
وهذا التذبذب ينعكس في تحليلها التاريخي أيضا. فهي بينما تصر على وجود تناقضات جذرية، في صميم كل ظاهرة اجتماعية: كفيلة بتطويرها وحركتها، تقرر من ناحية أخرى أن الصرح الاجتماعي الهائل، يقوم كله على قاعدة واحدة، وهي قوى الإنتاج، وطريقته الخاصة، وإن الأوضاع السياسية، والاقتصادية، والفكرية، وغيرها... ليست إلا بنى فوقية في ذلك الصرح، وانعكاسات بشكل آخر لطريقة الإنتاج، التي قام البناء عليها.

العلاقة بين بنى المجتمع وطريقة الإنتاج:

فالعلاقة إذن بين هذه البنى المتنوعة الألوان، وبين طريقة الإنتاج، هي علاقة معلولة بعلة. ويعني هذا، أن الظاهرات الاجتماعية الفوقية، لم تنشأ بطريقة ديالكتيكية، وفقا للتناقضات الداخلية فيها، وإنما وجدت بأسباب خارجة عن محتواها الداخلي، وبتأثير القاعدة فيها. بل إنا نجد أكثر من هذا، فإن التناقض الذي يطور المجتمع - في رأي الماركسية - ليس هو التناقض الطبقي بين علاقات الملكية القديمة وقوى الإنتاج الجديد.
 فهناك إذن شيئان مستقلان، يقوم التناقض بينهما، لا شيء واحد يحمل في صميمه نقضيه.
وكأن الماركسية أدركت موقفها هذا المتأرجح، بين التناقضات الداخلية، وقانون العلية، وحاولت أن توفق بين الأمرين. فأعطت العلة والمعلول مفهوما ديالكتيكيا، ورفضت مفهومهما الميكانيكي، وسمحت لنفسها على هذا الأساس، أن تستعمل في تحليلها طريقة العلة والمعلول، في إطارهما الديالكتيكي الخاص.

موقف الماريكسية من السببية:

فالماركسية ترفض السببية التي تسير على خط مستقيم، والتي تظل فيها العلة خارجية بالنسبة إلى معلولها، والمعلول سلبيا بالنسبة إلى علته. لأن هذه السببية تتعارض مع الديالكتيك، مع عملية النمو والتكامل الذاتي في الطبيعة.
ان إذا المعلول طبقا لهذه السببية، لا يمكن أن يجيء حينئذ أثرى من علته، وأكثر نموا؛ لأن هذه الزيادة في الثراء والنمو، تبقى دون تعليل. وأما المعلول الذي يولد من نقيضه، فيتطور وينمو بحركة داخلية، طبقا لما يحتوي من تناقضات، ليعود إلى النقيض الذي أولده.